مسئولية الطبيب عن الخطأ الفني والخطأ العادي في القانون المدني
في نطاق القانون المدني، يُسأل الطبيب عن الخطأ الذي يرتكبه أثناء أداء عمله الطبي، سواء كان خطأً فنيًا أو خطأً عاديًا. ويُقصد بـ الخطأ الفني إخلال الطبيب بالأصول العلمية أو القواعد الطبية المستقرة في تخصصه، كأن يُجري عملية بطريقة تخالف المعايير المهنية، أو يُخطئ في التشخيص أو العلاج نتيجة جهل فني. أما الخطأ العادي، فهو ما يتعلق بسلوك الطبيب العام، كالإهمال أو عدم الانتباه أو التأخير غير المبرر في مباشرة العلاج. ولا يكفي لقيام المسؤولية مجرد وقوع ضرر، بل يجب أن يثبت أن الطبيب قد ارتكب خطأً يُعد في نظر الأطباء المتمرسين انحرافًا عن سلوك الطبيب الحريص في نفس الظروف، وأن يكون هناك علاقة سببية بين هذا الخطأ والضرر الذي أصاب المريض. ويُخضع القانون مسؤولية الطبيب لاعتبار دقيق يوازن بين حماية المريض من الإهمال وحماية الطبيب من المساءلة غير المبررة عند بذل العناية اللازمة.
مسئولية الطبيب عن الخطأ اليسير :
يُسأل الطبيب في القانون المدني عن الخطأ اليسير شأنه في ذلك شأن الخطأ الجسيم، طالما أدى إلى ضرر للمريض وكان هناك رابطة سببية بين الخطأ والضرر. فالخطأ اليسير هو ذلك الانحراف البسيط عن واجب العناية التي يلتزم بها الطبيب، كالإهمال في تدوين بيانات طبية مهمة، أو التأخر غير المبرر في متابعة حالة المريض. ولا يُعفي بساطة الخطأ الطبيب من المسؤولية، لأن معيار الخطأ في الأعمال الطبية يقوم على سلوك الطبيب المعتاد الحريص في نفس الظروف، وليس على جسامة النتيجة. ويترتب على قيام الخطأ اليسير – إذا ثبتت أركانه – إلزام الطبيب بالتعويض المدني عن الضرر الناتج، دون تمييز بين حجم الخطأ، ما دام قد أخلّ بواجب العناية المفروضة عليه قانونًا ومهنيًا.
إلتزام الطبيب إلتزام ببذل عناية :
يُعد التزام الطبيب في القانون المدني التزامًا ببذل عناية لا بتحقيق نتيجة، أي أنه لا يُطلب منه شفاء المريض أو الوصول إلى نتيجة محددة، بل يُلزم بأن يُقدم للمريض الرعاية الطبية اللازمة وفقًا لما تقتضيه أصول المهنة ومعايير العلم والاحتياط، وبالقدر الذي يبذله الطبيب العادي في نفس الظروف. فالمسؤولية تقوم إذا ثبت أن الطبيب لم يبذل العناية المطلوبة، كأن يُهمل في التشخيص، أو يستخدم وسيلة علاجية غير مناسبة، أو يتأخر في التدخل عند الضرورة. ولا يُسأل الطبيب لمجرد عدم شفاء المريض، ما دام قد أدى عمله بأمانة واجتهاد وفقًا للمعايير الطبية السليمة، إلا إذا وقع منه خطأ يخرج عن نطاق العناية الواجبة، فيُسأل حينها عن تعويض الضرر الذي لحق بالمريض.
المستوى المهني للطبيب :
يُقاس المستوى المهني للطبيب بمعيار موضوعي يتمثل في سلوك الطبيب المعتاد الحريص في نفس التخصص والظروف، أي أن الطبيب يُطالب بأن يؤدي عمله بالمستوى الذي يُنتظر من طبيب يماثله في التكوين العلمي والخبرة العملية. ولا يُشترط أن يكون الطبيب على أعلى درجة من الكفاءة، لكن يجب ألا يقل أداؤه عن الحد الأدنى المقبول من الكفاءة المهنية وفقًا للأصول الطبية المستقرة. ويأخذ القانون في الاعتبار عند تقدير هذا المستوى طبيعة الحالة، ودرجة تعقيدها، والإمكانات المتاحة، دون النظر إلى النتيجة النهائية للعلاج. فإذا انخفض أداء الطبيب عن هذا المستوى، ونتج عن ذلك ضرر للمريض، اعتُبر ذلك خطأً مهنيًا يُرتب مسؤوليته المدنية، سواء كان الخطأ فنيًا أو ناتجًا عن إهمال أو تقصير في المتابعة والرعاية.
تعهد الطبيب بشفاء المريض :
لا يلتزم الطبيب في القانون المدني بـ تعهد بشفاء المريض، لأن التزامه يُعد من طبيعة الالتزام ببذل عناية لا بتحقيق نتيجة، نظراً لأن الشفاء في كثير من الأحيان لا يتوقف فقط على مهارة الطبيب، بل يتأثر بعوامل متعددة مثل حالة المريض الصحية، وتجاوبه مع العلاج، وظروف المرض ذاته. ولذلك، لا يُسأل الطبيب لمجرد عدم تحقق الشفاء، ما دام قد بذل جهده وفقًا للأصول العلمية والمهنية المعترف بها، وكان تصرفه مطابقًا لما يُنتظر من طبيب في نفس تخصصه وظروفه. ومع ذلك، إذا ثبت أن الطبيب قد تعهد صراحة أو ضمنًا بتحقيق الشفاء أو نتيجة محددة، فإنه قد يُسأل حينها عن إخلاله بهذا التعهد إذا لم تتحقق النتيجة، ما لم يثبت أن فشل العلاج راجع لسبب خارج عن إرادته.
إتباع الطبيب رأي طبي مازال محل خلاف :
إذا اتبع الطبيب رأيًا طبيًا لا يزال محل خلاف بين أهل المهنة، فلا يُعد فعله خطأً في حد ذاته، بشرط أن يكون هذا الرأي مدعومًا بتوجه علمي معتبر وله سند في الأوساط الطبية، وألا يكون محل رفض تام أو منبوذ من المجتمع العلمي. ويُشترط كذلك أن يكون الطبيب قد أحاط المريض علمًا بطبيعة هذا الرأي، ومدى الاتفاق أو الخلاف حوله، والمخاطر المحتملة المترتبة عليه، وأن يحصل على موافقة المريض الواعية قبل اتباعه. فإذا توافرت هذه الشروط، فإن سلوك الطبيب يُعد مشروعًا ولا يُسأل عنه، حتى لو لم تتحقق النتيجة المرجوة، لأن الخطأ الطبي لا يُقاس بانفراد الرأي، بل بخروجه عن إطار العلم والمعايير المقبولة. أما إذا اختار الطبيب رأيًا مهجورًا أو افتقر إلى أي أساس علمي معتبر، فإنه يُعد قد أخل بواجب العناية ويُسأل عن الضرر الذي يلحق بالمريض نتيجة لذلك.
التجارب الطبية :
تُعد التجارب الطبية من الوسائل الأساسية لتطور العلم واكتشاف علاجات جديدة، إلا أن القانون يفرض عليها قيودًا صارمة لحماية كرامة الإنسان وسلامته. ويُشترط لصحة هذه التجارب أن تُجرى بواسطة أطباء مختصين، وتحت إشراف علمي معتمد، وبعد الحصول على ترخيص من الجهات المختصة، وأن يكون الغرض منها مشروعًا، كتحسين وسائل العلاج أو الوقاية. كما يجب أن يتم إبلاغ الشخص محل التجربة بجميع التفاصيل المتعلقة بها، من حيث طبيعتها، وأهدافها، والمخاطر المحتملة، والنتائج المتوقعة، والحصول على رضاء حر وصريح ومستنير منه. ويحظر القانون إجراء تجارب طبية على الإنسان إذا كان الهدف منها تجاريًا أو ترفيهيًا أو غير مشروع، كما يُمنع تمامًا إجراؤها على الفئات غير القادرة على إبداء رضاء صحيح، كالأطفال أو فاقدي الأهلية، إلا في حالات استثنائية وبضوابط دقيقة. وأي تجاوز لهذه الشروط يُرتب مسؤولية قانونية ومدنية وجنائية على القائمين بالتجربة.
تكييف علاقة الطبيب بالمريض
اولا : حالة إختيار المريض أو نائبه للطبيب :
في حالة اختيار المريض أو نائبه القانوني لطبيب بعينه، فإن العلاقة بينهما تقوم على الثقة الشخصية والرضا المتبادل، ويترتب على هذا الاختيار أن يكون الطبيب مسؤولًا عن بذل العناية اللازمة في حدود تخصصه، وفقًا لما يُنتظر من الطبيب العادي في نفس الظروف. كما يتحمل المريض أو نائبه – في هذه الحالة – مسؤولية الاختيار، خاصة إذا كان الطبيب معروفًا بمستواه المهني أو مجال تخصصه. ومع ذلك، لا يُعفي هذا الاختيار الطبيب من مسؤوليته القانونية، فإذا ثبت أنه ارتكب خطأً مهنيًا أو أخلّ بالتزاماته، سواء الفنية أو الأخلاقية، كان مسؤولًا عن الضرر الذي يلحق بالمريض. ويُشترط دائمًا أن يكون المريض قد اختار الطبيب عن إرادة حرة وعلى بينة من حالته الطبية وطبيعة تدخل الطبيب، حتى تكون العلاقة قائمة على أسس قانونية صحيحة تترتب عليها المسؤولية المدنية عند الإخلال.
ثانيا : حالة تدخل الطبيب بغير دعوة من المريض :
في حالة تدخل الطبيب بغير دعوة من المريض، كأن يُبادر إلى إسعاف شخص مصاب فاقد الوعي في مكان عام أو يتدخل في حالة طارئة دون استئذان، فإن هذا التدخل يُعد مشروعًا ومبررًا قانونًا متى كان القصد منه إنقاذ حياة المريض أو منع تفاقم حالته الصحية، بشرط أن يكون التدخل ضروريًا وفوريًا ولا يمكن تأخيره لحين الحصول على رضاء المريض أو من يمثله. ويُستند في هذه الحالة إلى مبدأ الضرورة، الذي يُبيح الفعل الذي يكون في الأصل غير جائز إذا كان هدفه دفع خطر جسيم حالّ لا يمكن دفعه بطريقة أخرى. ولا يُسأل الطبيب عن الأضرار التي قد تنجم عن هذا التدخل إذا التزم بأصول المهنة وبذل العناية اللازمة، إلا إذا ثبت وقوع خطأ منه. وتُعد هذه الحالة استثناءً مشروعًا من شرط الرضاء المسبق، مراعاةً للطبيعة الإنسانية والطارئة للموقف.
ثالثا : حالة الطبيب المعين من قبل مستشفى أو مشروع خاص :
في حالة الطبيب المعين من قبل مستشفى أو مشروع خاص، تنشأ علاقة الطبيب بالمريض بطريق غير مباشر، إذ يتم العلاج بناءً على تعاقد المريض مع المؤسسة الطبية، وليس مع الطبيب شخصيًا. وفي هذه الحالة، يكون الطبيب قد باشر عمله بتكليف من جهة عمله، ويظل ملتزمًا تجاه المريض ببذل العناية اللازمة وفقًا للأصول الطبية. وتقوم مسؤوليته المباشرة إذا ارتكب خطأً مهنيًا في أدائه، كما قد تُسأل المؤسسة الطبية مسؤولية تبعية عن أخطائه، باعتباره أحد العاملين لديها. أما إذا أخطأت المستشفى نفسها في التنظيم أو الإشراف أو في توفير الكوادر أو الأدوات، فإنها تُسأل عن ذلك استقلالًا. ويُلاحظ أن كون الطبيب معينًا من قبل جهة خاصة لا يُعفيه من المسؤولية الشخصية، كما لا يمنع المريض من الرجوع عليه أو على المؤسسة بحسب طبيعة الخطأ وظروف الواقعة.
رابعا : حالة الطبيب الذي يعمل بمستشفى عام :
في حالة الطبيب الذي يعمل في مستشفى عام، فإن العلاقة بينه وبين المريض لا تقوم على عقد مباشر، بل يُباشر الطبيب عمله بوصفه موظفًا عامًا مكلّفًا بتقديم الخدمة الطبية لحساب الدولة أو الجهة الإدارية المختصة. ومع ذلك، فإن الطبيب يظل مسؤولًا عن أخطائه المهنية الشخصية إذا ثبت أنه ارتكب خطأً فنيًا جسيمًا أو إهمالًا واضحًا أثناء أداء عمله، وتقوم مسؤوليته الشخصية وفقًا لأحكام المسؤولية المدنية. وفي المقابل، قد تُسأل الجهة الإدارية (الدولة أو المستشفى) عن الضرر أيضًا، سواء بسبب خطأ تنظيمي أو تقصير في الإشراف أو ضعف التجهيزات، وذلك في إطار ما يُعرف بـ”المسؤولية الإدارية عن فعل الغير”. ويتميز هذا الوضع بأن الطبيب العام يُعامل كموظف، فلا يُسأل مدنيًا عن الأخطاء الإدارية أو التنظيمية، بل يُسأل فقط إذا أخلّ بواجب العناية المهنية أو خالف أصول المهنة الطبية في نطاق عمله.
المستشار محمد منيب محامي مصر / أفضل محامٍ قضايا المحاكم المدنية في مصر
13 شارع الخليفة من شارع الهرم ناصية فندق الفاندوم، بجوار السجل المدنى، الهرم، الجيزة.